والدعاء دليل على التوكل على الله، فسرُّ التوكلِ وحقيقتُه هو اعتمادُ القلبِ على الله، وفعلُ الأسباب المأذون بها، وأعظمُ ما يتجلى هذا المعنى حالَ الدعاء؛ ذلك أن الداعيَ مستعينٌ بالله، مفوضٌ أمرَهُ إليه وحده.
والدعاء وسيلة لكِبَرِ النفس، وعلو الهمة؛ ذلك أن الداعيَ يأوي إلى ركن شديدٍ ينزل به حاجاتِه، ويستعين به في كافّة أموره؛ وبهذا يتخلص من أَسْر الخلق، ورقِّهم، ومنَّتِهِم، ويقطعُ الطمعَ عما في أيديهم، وهذا هو عين عِزِّهِ، وفلاحِه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
« وكلّما قوي طمع العبد في فضل الله، ورحمته، لقضاء حاجته ودفع ضرورته؛ قويت عبوديتُه له، وحريته مما سواه؛ فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديتَه له فَيأْسُهُ منه يوجب غنى قلبه
»ا_هـ.
والدعاء سلامة من العجز، ودليل على الكَياسة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (
أعجز الناس من عجز من الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام ). رواه ابن حبان، وصححه الألباني.
ومن فضائل الدعاء: أن ثمرته مضمونة بإذن الله_قال النبي صلى الله عليه وسلم: (
ما من أحد يدعو بدعاء إلا آتاه الله ما سأل، أو كفّ عنه من سوء مثلَه؛ ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ). رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني.
وقال صلى الله عليه وسلم: (
ما من مؤمنٍ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لله يسأله مسألةً إلا أعطاه الله إياها، إما عجّلها له في الدنيا، وإما ذخرها له في الآخرة، ما لم يعجل ).
قالوا: يا رسول الله وما عَجَلَتُه؟ قال: (
يقول: دعوت ودعوت ولا أراه يُستجاب لي ). أخرجه أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني.
ففي الحديثين السابقين وما في معناهما؛ دليل على أن دعاء المسلم لا يُهمل، بل يُعطى ما سأله إما مُعجلاً، وإما مُؤجلاً.
قال ابن حجر رحمه الله: (
كلُّ داعٍ يُستجاب له، لكن تتنوع الإجابة؛ فتارةً تقع بعين ما دعا به، وتارةً بعِوَضِه ). ا_هـ.
ومن فضائل الدعاء: أنه سبب لدفع البلاء قبل نزوله، ورفعه بعد نزوله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (
لا يغنى حذرٌ من قدرٍ، وإن الدعاءَ ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن الدعاء ليلقى البلاءَ فيعتلجان إلى يوم القيامة ) أخرجه الطبراني وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
ومعنى يعتلجان أي: يتصارعان، ويتدافعان.
والدعاء يفتح للعبد بابَ المناجاةِ ولذائذَها، قال بعضُ العُبَّادِ: (
إنه ليكون لي حاجةٌ إلى الله، فأسأله إياها، فَيَفْتَحُ عَلَيَّ من مناجاتهِ، ومعرفتهِ، والتذللِ لَهُ، والتملقِ بين يديه ما أحب معه أن يؤخَّر عني قضاؤها، وتدومَ لي تلك الحال ).
أيها الصائمون الكرام، والدعاء من أعظم أسباب الثبات والنصر على الأعداء، قال_تعالى_ عن طالوت وجنوده لما برزوا لجالوت وجنوده: ﴿
قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾.
فماذا كانت النتيجة؟ ﴿
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ ﴾.
ومن فضائل الدعاء: أنه مَفْزَعُ المظلومين، ومَلْجَأُ المستضعفين؛ فالمظلوم أو المستضعف إذا انقطعت به الأسباب، وأغلقت في وجهه الأبواب، ولم يجد من يرفع عنه مظلمته، ويعينه على دفع ضرورته، ثم رفع يديه إلى السماء، وبث إلى الجبار العظيم شكواه _نصره الله، وأعزه، وانتقم له ولو بعد حين.
وأخيراً: فإن الدعاءَ دليلٌ على الإيمان بالله، والإقرار له بالربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات؛ فدعاءُ الإنسان لربه متضمنٌ إيمانهَ بوجوده، وأنه غنيٌّ، سميعٌ بصيرٌ، رحيمٌ، قادرٌ، جوادٌ، مستحقٌ للعبادة دون من سواه.
اللهم يسرنا لليسرى، وجنبنا العسرى، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، واقرن بالعافية غدوَّنا وآصالنا، اللهم انصر المجاهدين، وفرج هم المهمومين، ونِّفسْ كربَ المكروبين من المسلمين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
</BLOCKQUOTE>